إشكالية البيضة و الدجاجة في القانون الدولي الجنائي

في البداية أجد من المناسب أن أشير إلى نقطة في منتهى الأهمية و هي أنني لست من المتحمسين للقانون الدولي الجنائي( وهو فرع من فروع القانون الجنائي ) ، وذالك لسببين:
أولهما لأنه ولد من رحم السياسة و بعد ولادته التصق ببطن أمه وبقي كذالك حتى الآن ، و هذه الأخيرة أمقتها مقتا شديدا ، أما السبب الثاني فهو أن هذا القانون عبارة عن سوط بيد الدول الظالمة تسلطه على من شاءت...متى شاءت...وكيف شاءت.
لقد ارتبط إجرام الدولة بالجرائم التي ترتكبها جيوشها في أقاليم الدول الأخرى ، وكانت الدولة المعتدية تعاقب على هذا الأساس، فقد عوقبت ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى وتتجسد عقوبتها في معاهدة فرساي في 28 جوان1919
ثم تطور الأمر تدريجيا...وظهرت محاكمات نورنبورغ الشهيرة و التي تأسست بموجب معاهدة لندن في 08 أوت1945 ...وعاقبت القادة السياسيين و العسكريين الألمان ، وكانت الخطوة الأولى لمعاقبة الأفراد رغم ما وجه لهذه المحاكمات من انتقادات ...وفي 17 جويلية1998 أنشأت المحكمة الجنائية الدولية بروما...و صرحت بناءا على المادة 25 من نظامها الأساسي أنها تعنى بمعاقبة الأفراد الذين يثبت تورطهم في جرائم دولية.....كفى تاريخا
أعتقد أن التساؤل عن المسؤول في الجرائم الدولية هل هو الفرد أم الدولة؟ لا فائدة منه ، ذالك أنه إذا اعتبرنا أن الدولة مسؤولة سمعنا صوتا خفيا يقول أن الدولة كلمة تعني كيانا خفيا لا يرى ولا يمكن لمسه فكيف نعاقبه؟
أما إذا اتهمنا الفرد فيصعب إثبا تورطه خاصة في حالة قيام حرب بين دولتين...و إن كنت أحمله المسؤولية، غير أنه إذا تمعنا جيدا في المسألة وجدنا أن ترجيح رأي من الرأيين لا يخلو من النقد لأن هذه الأسئلة أشبه ما تكون بالسؤال التقليدي الذي يقول من الأسبق للوجود البيضة أم الدجاجة؟؟؟
إن أبسط مواطن يدرك جيدا أن الدولة البسيطة التي يعيش فيها قد تكون محل إجرام دولي من نوع خاص، فقد تحتل دولته و يقتل شعبه لا لشيء سوى لأن دولته تخزن في باطنها احتياطات هامة من البترول أو ماشابه...ولهذا و بحكم دراستي المتواضعة للقانون الدولي الجنائي وليس من باب الإحباط أقول أن هذا الفرع من القانون هو الأكثر جمودا رغم شمولية نصوصه ولهذا فلا تغتر عزيزي القارئ بأي هيئة دولية ..لأنها مجرد لعبة بلاستيكية بيد صعاليك العالم

قصة جريمة الزنا.....عالمهم و عالمنا

لقد ترددت كثيرا في كتابة هذه التدوينة ، ولكن ما ستكتشفه عزيزي القارئ سيغني عن ذكر سبب كتابتها ، و سوف نلقي من خلالها نظرة على جريمة الزنا ، و بالخصوص على شرط من شروط قيامها
حيث يشترط القانون لقيام الجريمة أن يكون أحد الجناة متزوجا...وهو الشرط الذي أراه غير منطقي بالمرة بالنسبة لمجتمعاتنا العربية ، إذ يفلت الزاني من العقاب بمجرد أن يثبت أنه أعزب هو أو شريكته...أليس هذا مخجلا
لقد نقلت أحكام جريمة الزنا الموجودة في القوانين العربية من قانون العقوبات الفرنسي القديم...ولكن السؤال الذي أجدني مظطرا لطرحه هو: هل يصلح قانون العقوبات الفرنسي كنموذج في تجريم الزنا؟؟؟
سأروي لكم الحكاية من البداية...ولكنها ليست حكاية ما قبل النوم لأنها قصة حقيقية ولكم أن تجيبوا أعزائي عن السؤال الذي طرحته بمفردكم بعد ذالك
في سنة1254 قرر الملك الفرنسي لويس التاسع منع البغاء و نفيت جميع العاهرات من فرنسا ، وسرعان ما انتشرت جريمة الإغتصاب بشكل رهيب فقامت الحكومة بإلغاء القانون الذي أصدره الملك سنة 1256 ، فعادت العاهرات لممارسة الرذيلة بكل حرية و بحماية قانونية أيضا.
وقد أوصى لويس التاسع نجله فيليب بإعادة العمل بالمرسوم الذي أصدره سابقا بشأن البغايا...وعادت معدلات جريمة الإغتصاب لترتفع مجددا...كان هذا منذ زمن بعيد ، أما الآن فقد ألغى القانون الفرنسي جريمة الزنا بموجب قانون صدر في 11 جويلية1975 ...وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تفشي الفحش و الخيانة الزوجية في فرنسا بشكل يستحيل معه تجريم هذا الفعل فقد أصبح في حكم العادة ...ومن هنا أعتقد أن فرنسا ليست نموذجا إطلاقا، فلماذا تصر قوانينا العربية على التمسك بشروط جريمة الزنا الفرنسية الأصل؟؟؟
أعتقد أن هذه التبعية مكلفة جدا...لأنهم عندما جرموا الزنا قصدوا من وراء ذالك حماية الحياة الزوجية...أما نحن فمن المفروض أن نجرمه حماية للأخلاق بالدرجة الأولى
أعتقد أن القوانين الوضعية الأجنبية لا تصلح للتطبيق في عالمنا العربي ، والحل في رأيي هو الرجوع للتعاليم الدينية، فإذا كانت الدولة العربية إسلامية ففي سورة النور من القرآن الكريم ما يغني عن أي تشريع وضعي مهما كان مصدره ...أما الديانات السماوية الأخرى فتحرم الزنا شأنها شأن الإسلام في ذالك ، فبالنسبة للشريعة اليهودية نجد ما ورد في سفر الاويـيـن الإصحاح 19/29 ( لا تدنس ابنتك بتعريضها للزنا لئلا تزني فتمتلأ الأرض رذيلة) ، أما الديانة المسيحية فقد أقرت أن الجماع بدون زواج يتضمن ذنبين الأول في حق الرجل و الثاني في حق شريكته، وبالتالي فالزنا محرم في جميع الديانات السماوية ودون شرط قيام علاقة زوجية سابقة بمعنى أن المفروض قيام الجريمة وإن كانا عازبين...فلما المكابرة
و في الأخير أهنئكم أعزائي بحلول عيد الفطر و أرجو أن يعيده الله عليكم بتمام الصحة و اليمن و البركات

إنـتـقـام النجـار من رجـال القـانـون


النيابة العامة داخل قاعة المحاكمة تجسد صفة المحامي! ، و لكن هذا المحامي لا يدافع عن المتهم بل يمثل المجتمع و يقدم طلباته للقاضي باسم المجتمع ، و سأكون صريحا معكم...إن ممثل النيابة في المحاكمة يحاول جاهدا توريط المتهم أمام القاضي رغم أن القانون لا يطالبه بذالك .
و من الناحية التاريخية يرجع أصل النيابة العامة إلى تاريخ استحداث منصب محامي الملك و الذي كان يرافع باسم هذا الأخير ، وأقدم تعيين لمحامي الملك عثر عليه كان مؤرخا في سنة 1332 ، ثم تطور الأمر شيئا فشيئا ليصبح محامي الملك محاميا عن المجتمع...وكان يقف بجانب محامي المتهم أثناء المحاكمة ، وهنا تبدأ الأسطورة التي تقول أنهم قرروا بناء قاعة المحكمة و إعادة تأثيثها ، و قام النجار الذي كلف بذالك بخطأ فادح حيث أنه خصص جزءا من الطاولة المخصصة للقضاة فوق المنصة لمحامي المجتمع ، و بالتالي أصبحت صلاحيات النيابة واسعة سعة صلاحيات القاضي نفسه ...لكن هل هذا صحيح؟
بداية لا يوجد دليل واحد يثبت صحة هذه الواقعة فهي مجرد مثال يدرسه أساتذة القانون للطلبة لتبرير صلاحيات النيابة العامة ...ثم إن النجار حرفي بسيط ، وهذا في اعتقادي سبب اختياره لهذا المثال لأن من عادة البعض اختيار الأضعف لتحميله المسؤولية
و لكن دعنا نتخيل لو أن هذه الأسطورة قصة حقيقية ...فبعد تحميل النجار وزر النيابة العامة فإنه سيقرر حتما الانتقام من رجال القانون الذين اتهموه بهذه التهمة التي هو منها بريء ، و عليه فقد يقرر النجار إعادة تأثيث المحكمة من جديد ليضع بجانب كرسي النيابة كرسيا آخر و يخصصه للمتهم !!! ، حينها ستصبح قاعة المحاكمة أقرب إلى قاعة للحوار منها إلى قاعة لتقرير العقاب على المجرمين
وحتى أجنب نفسي أي انتقام من أي حرفي شارك في بناء المحكمة فإني أعترف بأن النجار بريء من النيابة العامة براءة الذئب من دم يوسف!

قـاضي التحقيق.....أميـر بلا إمـارة!!!


لا أدري بما يمكنني أن أشبه قاضي التحقيق لو كانت الشخصيات التي تتكون منها المحكمة قطعا من الشطرنج...و السبب في ذلك أنه يكون بمنزلة الملكة أحيانا و لكنه يتراجع ليصبح بيدقا أحيانا أخرى.
قاضي التحقيق هو قاض من قضاة الحكم أي أنه ليس عضوا من أعضاء النيابة ، وفكرة قاضي التحقيق هي فكرة فرنسية الأصل...ظهرت لأول مرة بموجب أمر ملكي سنة 1610
أما المهام التي يكلف بها عادة هذا الأخير فهي كثيرة جدا أكتفي بالإشارة إلى أهمها...فهو يحمل صفة المحقق و هنا يكون أقرب لرجال الشرطة منه إلى رجال القضاء فيعاين مسرح الجريمة ويبحث في الأدلة ويطلب الخبرة إذا تعلق الأمر بعيارات نارية أو ببصمات، كما يحمل صفة القاضي حيث يستجوب المتهمين و يوجه التهمة لمن يشتبه في ضلوعه في الجريمة ويسمع الشهود ،كما قد يواجه بين شاهد و متهم إذا تعارضت أقوالهما، وله صلاحية إيداع المتهم السجن في انتظار محاكمته
غير أن الإشكال الذي من أجله كتبت هذه الكلمات هو: هل يعتبر قاضي التحقيق مستقل بما فيه الكفاية لممارسة مهامه بنزاهة ودون ضغط ؟
باعتبار قاضي التحقيق من قضاة الحكم فهو مستقل من الناحية النظرية، لكن ما لا يعلمه العامة هو أن ممثل النيابة هو من يختار قاض من بين قضاة التحقيق ليباشر التحقيق في قضية ما ، كما أن قاضي التحقيق يعمل تحت إشراف رئيس غرفة الإتهام ، و تعتبر غرفة الإتهام الجهاز الذي يراقب هذا النوع من القضاة ...والمشتكى لمن يعاني من ظلم قاضي التحقيق
و من هنا فهو لا يستمتع باستقلالية قاضي الحكم...ومن هنا لم تبقى له فرصة سوى الحصول على بعض صلاحيات النيابة العامة لتعويض التهميش الذي يعاني منه بين زملاءه القضاة!!!!
إن قرارات النيابة العامة ليست مصيرية بالنسبة للمتهم فإذا حفظت الدعوى أمكن تحريكها بظهور أدلة جديدة كما أن دور هذه الأخيرة ينتهي باقتراح عقوبة مناسبة على المتهم ....و قاضي الحكم لا يعير هذا الإقتراح أية أهمية عادة
أما قرارات قاضي التحقيق فمصيرية إلى حد كبير فهو يستطيع سجن المتهم شهور قبل محاكمته...كما أن محاضره المدونة تشكل قلب الملف الذي بين يدي قاضي الحكم و لا يستطيع تجاهلها
لقد ألغي نظام قاضي التحقيق في ألمانيا سنة1975 وفي إيطاليا عام1990 و نقلت مهام التحقيق للنيابة العامة ، أما فرنسا مهد الفكرة...فقد قررت تقزيمه منذ سنة2000 باستحداث نوع آخر من القضاة و هو قاضي الحريات الذي أسندت له مهمة النظر في كل ما يتعلق بحرية المتهم ...وفكرة هذا القاضي جاءت بها الأستاذة الفرنسية ديلماس مارتي ، وأعتقد أن فرنسا ستتخلى عنه بشكل نهائي عما قريب
قاض التحقيق ...مهنة تحتاج إلى ذكاء و خبرة و إلمام بمجموعة من العلوم التقنية بالإضافة إلى سرعة البديهة و قوة الملاحظة غير أن عدم وجود مدار خاص يدور في فلكه... جعله أميرا تـائـها ،لا هو يجد إمارة فيحكمها و لا هو يتخلى عن لقبه كأمير .....