قصة يوهان...فلسفة لص ( الجزء الثالث )

...ماتت ( إيفا ) بعد خمس سنوات من المقاومة...كانت تحارب على أكثر من جبهة...المرض...الشيخوخة...الفقر... ، لم يكن ليوهان شيء يبقى من أجله في ذالك المنزل...غادره و بقي متنقلا من مكان لآخر فتارة يقضي ليلته في محطة القطار...و تارة يقضيها في قبو عمارة من العمارات التي كان يعرفها...لقد كان يوهان يكبر بسرعة...لم يكن يسعى لذالك قطعا و لكنه حدث !...لقد أصبح شابا ، قام بكراء غرفة بقبو عمارة بثمن زهيد...أما مساحتها فلن أبالغ إذا قلت بأنها تكفي لنوم شخص واحد فقط متوسط الطول...لنومه فقط... هذا ما كان يحتاجه يوهان بعد يوم حافل بالسطو...
لم يكن يوهان رشيق اليدين و لم يتميز قط بخفة الحركة...و هي مميزات السارق الذي لا يشعر الضحية بعملية السرقة حتى إذا تمت و اختفى المجرم تفطنت الضحية...و لكن مع افتقاره لهذه الميزة فقد كان متحكما في تعابير وجهه بشكل يجعله يبدو عاديا جدا في مسرح الجريمة...لأن أصابع الريبة و الشك لا تصوب عادة نحو شخص مشلول الذراع...كما أنه في كثير من المرات التي يسرق فيها لا يتورع عن نصح الضحية و التخفيف عليه مع أن المسروقات لم تبارح جيبه الواسع...و حدث أن قام بسرقة ساعة من يد كهل و لما رأى فجيعته بساعته الثمينة قام بإخراج ساعة أخرى من جيبه كان قد اختلسها في وقت سابق و لم يبعها...و أهداها لذالك الكهل الذي اعتبر الموقف شهامة قل نظيرها !
كان له إحساس خاص تجاه من يسرقه ، ففي العادة يوسع السارق الضحية ضربا بعد سرقته ، كما قد يطعنه بسكين أو يطلق عليه عيارا ناريا ، و لكن يوهان لم يكن من ذالك النوع فقد كان يشعر بأن ضحيته هو بمثابة صديق أو عزيز و لهذا فهو يحتفظ بكل المسروقات التي لا يحتاج لبيعها في غرفته الحقيرة...و أحيانا ينساها داخل جيبه الواسع الذي مزقه من الداخل بشكل يجعل الشيء الذي يضعه فيه يتدحرج داخل المعطف دون أن يحدث صوتا ليستقر في أسفله...لما يلقي نظرة على مسروقاته يتذكر واقعة السرقة بشيء من الحنين ، يبيع منها ما يسد جوعه و يكفي لتسديد أجرة الغرفة...و ربما أهدى بعضها ، و قد حدث أن أهدى لفتاة أراد التودد إليها إسورة ذهبية...و شعرت الفتاة بأنها رأت الإسورة من قبل...كانت قد رأتها حقا في يد رفيقتها و لكنها لم تكن متأكدة من ذالك الشعور...و سرعان ما أنساها بريق الذهب مصدر الإسورة...فالذهب سحر دون السحر و سحره أشد تأثيرا في المرأة لأن رقتها تدفعها لحب كل ما يلمع أما الرجل فيميل للقيمة و تنقطع عواطفه تجاه الأشياء بمجرد بيعها ، و طبعا أخذت الفتاة الإسورة و لكن علاقتها بيوهان لم تدم طويلا لأن يوهان لم يكن يحب الوقوف على التفاصيل...كانت فقيرة معدمة مثله تماما...و لكنها تتصرف برومانسية...كانت رقتها و حرصها عليه أمراغير مألوف بالنسبة إليه ، فبعد وفاة ( إيفا ) لم يسأل أحد قط على صحته...عن سر انتفاخ عينيه عند كل صباح بسبب الرطوبة...لم يتعود على الرتابة في حياته و فجأة وجد فتاة تسأله عن الساعة التي ينام فيها...و وجبته المفضلة...كانت أسئلة سخيفة بالنسبة إليه و لكنه أجاب عليها على نحو ما في البداية...و لكنه أشفق على الفتاة...فقرر تركها لأنه لم يرد مصارحتها بمهنته...كان يتسائل دائما عن سر موافقتها المبدئية عليه...لم يكن وسيما جدا...كما أن شكله لا يوحي تماما بالثراء...كان يوهان بارعا في الحديث إلى الفتيات و لكن للكذب حدودا لا يمكن تجاوزها فإذا أسرف الكاذب في كذبه اكتشف أمره...أما إذا كان محترفا فإنه يستثمر واقعة كشف أمره ليحولها لمزحة...لقد كنت أمزح !!!...
يوهان محترف سرقة...مهنته و هوايته...حياته كلها...إنه يستغل أي تجمع بشري للقيام بها...كان يحب الجنائز جدا...يدخل المقبرة مع عائلة المتوفي و يخيل لمن يرى حزنه بأنه كان أعز أهل الميت للميت...و يوشك الحاضرون على تقديم العزاء له أولا...إنه يقف بينهم و في لحظة الدفن تمتد يده اليسرى للجيوب التي تطالها لحمل ما وجدت...كان يزور المقابر البعيدة عن مدينته...يدخل المقبرة و يقترب من قبر أحدهم...يتأمله مطولا...يتأثر لفقده مع أنه لا يعرفه البتة كما أن تاريخ الوفاة المدون على القبر لا يدع مجالا للشك بأن هذا الإنسان قد ألف الموت أكثر من الحياة...لأنه مات منذ عقود!...إنها الوحدة...تلك المتوحشة البريئة التي تدفع الإنسان لمخاطبة الأشياء...فقط ليتذكر بأنه إنسان ...و في ليلة من الليالي و بعد يوم شاق...استلقى يوهان على فراشه...إنه على وشك اتخاذ قرار مهم في حياته...لا تخافوا فهو لن يفكر في الزواج!!! لقد قرر أن يقوم بعمليات سرقة نوعية...لم يعرف هذا المصطلح و لكنه ببساطة تفكيره قرر أن يكسب أكثر في وقت أقل...لقد سئم سرقة الشيوخ...من الآن فصاعدا سيسرق أناسا آخرين...إنهم الأغنياء...لن يضطر لسماع عويل النساء البائسات عند تعرضهن للسرقة...كما لن يضطر لرؤية عيون الرجال الشاخصة بعد سرقتهم...تلك العيون التي توشك أن تخرج لولا أن قدر لها البقاء بداخل الرأس إلى أن تتبع الروح في خروجها لآخر مرة !
لم يتجنب يوهان الأغنياء خوفا منهم ، و لكن الفقراء أمثاله كانت الطبقة الوحيدة التي يعرف كل تفاصيلها...يعرف أين يضع الواحد منهم ماله قبل أن يقرر سرقته...يعرف كيف يخرج من بينهم بهدوء دون أن يشعروا به...أما الأغنياء فعالم آخر...كان يتمنى التعرف عليه...و للدخول لهذه الطبقة الجديدة لابد من تغيير بعض الأشياء و تعديل البعض الآخر...ملابسه العادية جدا لابد من تغييرها...أما مظهره الخارجي الذي لم يهتم به يوما فيجب عليه تعديله بما يتماشى مع مغامرته الجديدة...سينفق الكثير من المال...سيبيع الكثير من المسروقات التي احتفظ بها في المنزل لوقت طويل...إنه الإستثمار...
يتبع...دمتم بخير

2 التعليقات:

مغربية يقول...

أعجبتني بعض التفاصيل في هذا الجزء
كيف يربط يوهان علاقة جيدة بالمسروق منه
وكيف قرر أن يسرق الأغنياء فيغير من ذاته لأجل ذلك

وأنا هنا كما دوما يا صاحب الشوكولاتة
أتابع معك ما سيحدث ليوهان
سلاموو

يوسف يقول...

السلام عليكم
أختي العزيزة / سناء
مرحبا بك أختي العزيزة...
سعيد أنا جدا بمرورك...أتمنى من كل قلبي أن تعجبك بقية أحداث القصة
بارك الله فيك